إنّ بداية قرننا هذا والتطوّرات التكنولوجيّة التي واكبته سمحت للرأي العامّ بإبداء رأيه حول أي موضوع عبر مواقع التواصل الإجتماعي وغيرها. إن كان هذا التطوّر نعمة لكلّ المدافعين عن والمؤمنين بالقيم الليبراليّة، لا سيّما حريّتي الرأي والتعبير، يبقى أنّ كلّ واحدٍ منّا، بمجرّد نشر تغريدة أو معلومة أو خبر، أصبح مسؤولاً عنها كونه يأثّر عبرها في عشرات ومئات وآلاف من مستخدمي مواقع التواصل الإجتماعي، أي في الرأي العامّ. فما هو أسوأ من التضليل الفكري، خاصّةً عندما يقوم به من يفترض أن يكون من “أهل الإختصاص” ؟ وما الغاية من شيطنة مشروع سياسي برمّته فقط لشيطنته ؟
في ٢٧ كانون الثاني الماضي، نشرت الصحافيّة الإستقصائيّة نهلا ناصر الدين مقالًا على موقع “أساس” الإلكتروني بعنوان “مسرّة، نجّار، قبّاني : الفدراليّة مشروع حرب”. في ذلك الوقت، لم يحدث المقال أي ضجيج على مواقع التواصل الإجتماعي. غير أنّ إعادة نشره مؤخّرًا من قبل مدير معهد العلوم السياسيّة وأستاذ العلاقات الدوليّة في جامعة القدّيس يوسف البروفسور كريم إميل بيطار على منصّة إكس لفت إنتباه بعض متابعيه. فمنهم من يؤيّد المشروع الفدرالي في لبنان كالكاتب والناشط إياد جورج بستاني، ومنهم من يعارض هذا المشروع مثل المصرفي والخبير الإقتصادي جان الرياشي. لكن كلاهما اتّفقا على أنّ المقال مليءٌ بالمعلومات والادّعائات الخاطئة، وهذا ما سنحاول إثباته في السّطور القادمة…٬
تبدأ الصحافيّة ناصر الدين إنتقادها للمشروع الفدرالي من الجملة الأولى للمقال، وذلك من خلال تعريفها للمشروع الفدرالي بأنّه “إعلان إستحالة العيش بين المكوّنات الأهليّة اللبنانيّة”. بدلًا من إعطاء تعريف علمي للمصطلح – وهذا ما لن تفعله طوال مقالها – تدّعي السيّدة ناصر الدين أنّ الفدراليّة نقيض العيش المشترك. فبما أنّها لم تقدّم الصحافيّة ولا الأشخاص التي تمّت مقابلتهم تعريفًا واضحًا وموضوعيًّا للفدراليّة، لا بدّ من ذكر مفهومها. أساسًا، “الفدراليّة” مصطلح أجنبي تُرجم لاحقًا إلى اللّغة العربيّة بكلمة “الاتّحاديّة”. وهي شكل من أشكال النظام السياسي تكون السّلطات فيه موزّعة دستوريًّا بين حكومة مركزيّة ووحدات حكوميّة أصغر، ويكون كلا المستويين المذكورين من الحكومة معتمد أحدهما على الآخر وتتقاسمان وظائف الدولة. وكما سنراه لاحقًا، هدف النظام الفدرالي بعيدٌ كل البعد عن “إعلان إستحالة العيش بين المكوّنات”. في الواقع، طرح النظام الفدرالي عبارة هدفه البحث في كيفيّة العيش معًا أوّلاً وبطريقة أفضل ثانيًا، أي في كيفيّة تحقيق ليس فقط التعايش بين مكوّنات المجتمع، بل العيش المشترك.٬
قابلت الصحافيّة ناصر الدين ثلاثة أشخاص لكتابة مقالها، وهم : عضو المجلس الدستوري السّابق في لبنان الدكتور أنطوان مسرّة، ووزير العدل السّابق القاضي الدكتور خالد قبّاني، ووزير العدل السّابق الدكتور إبراهيم نجّار. وسرعان ما سنرى أن الثلاثة أو حتّى الأربعة منهم يحملون نفس الرأي ويرمون كلّ معارض لأفكارهم في سلّة الجهل والتخلّف والرجعيّة، معتبرين ولو بطريقة غير مباشرة أنّ “أهل الإختصاص” لا يمكنهم أن يكونوا داعمين لطرح الفدراليّة، وإلّا سحب عنهم هذا اللّقب.٬
أوّلًا، يبدأ الدكتور مسرّة كلامه بإستخدام عبارات فوقيّة ومستفزّة وخاطئة، واصفًا المطالبين بالفدراليّة الجغرافيّة ب”القانونيّين غير الحقوقيّين والمثقّفين بلا خبرة”، متّهمًا إيّاهم ب”زعزعة شرعيّة الكيان اللبناني”، وكأنّ شرعيّة الكيان اللبناني قائمة على مركزيّتة دولته ومؤسّساته. بعد ذلك، يميّز الدكتور مسرّة بين “الفدراليّة الشخصيّة” و”الفدراليّة الجغرافيّة”، وهذا تمييزٌ واقعيٌّ. لكن سرعان ما “خبّص” عضو المجلس الدستوري السّابق عندما ربط “الفدراليّة الشّخصيّة” بأمور محقّة تتعلّق بنظام الأحوال الشّخصيّة -وهذا صحيحٌ تمامًا – بيمنا ربط “الفدراليّة الجغرافيّة” بالتقسيم والتهجير والانصهار القسري والإجرام وغيرها من الخرافات. فالدكتور مسرّة يتكلّم وكأنّ المكوّنات اللبنانيّة لم تتقاتل وتهجّر وتهاجر في الماضي وفي الحاضر، عندما تصارعت قياداتها – وما زالت – من أجل السيطرة على الجزء الأكبر من السّلطة المركزيّة. ولأنّ التاريخ يعيد نفسه، لا بدّ من تصحيح شكل الدولة لصالح السّلم الأهلي الحقيقي والدائم.٬
لإثبات أنّ الفدراليّة عبارة عن “مشروع حرب”، يعود د. مسرّة إلى حقبة تاريخيّة قديمة لجبل لبنان، وهي فترة القرن التّاسع عشر، وبالتحديد فترة نظام القائمقاميّتين (١٨٤٣-١٨٦١). هذه ليست مشكلة بذاتها، كوننا قلنا إنّ التاريخ يعيد نفسه وعلينا أن نأخذ منه العبر. لكنّ، كما ذكر الكتور مسرّة، ظهر نظام القائمقاميّتين في ظلّ الإمبراطوريّة العثمانيّة وبجهدٍ فرنسيٍّ، إذ قال القنصل الفرنسي آنذاك نيقولا بوريه لوزير خارجيّة بريطانيا لورد أبردين: “فشلنا في تقسيم ما لا يقسّم والحلّ هو العودة إلى الوحدة”. لكنّ ما لم يذكره الدكتور مسرّة أنّ هناك فرق كبير بين نظام سياسي وضعته القوى العظمى لشعبٍ وأرضٍ وجغرافيا استعمرتها وحكمتها حسب مصالحها في المنطقة أي في الشّرق الأوسط، وبين نظام سياسي يضعه شعبه لنفسه وحسب مصالحه وفي التوقيت الذي يراه مناسب وبتقنيّات محدّدة، ولو كان النظام هذا شبيه بنظام سابق فرضه الإستعمار في ظروف مختلفة تمامًا.٬
أمّا بخصوص اتّهامه المشروع الفدرالي بأنّه “مشروع صهيوني”، فلن نتوقّف عنده وإلّا نكون قد أولينا الكثير من الإهتمام للاتّهامات التي غالبًا ما تنبع من مناصري طرف معيّن في لبنان، بهدف تدمير أخصامهم معنويًّا.٬
هذا كلّه بخصوص الدكتور مسرّة. أمّا بخصوص الوزير خالد قبّاني، الذي أكّد أنّ “الفدراليّة لا يمكن أن تكون حلًّا لبلاد قائم على التنوّع”، نقترح عليه بكل إحترام أن يقول الشيء نفسه للسويسريّين والبلجيكيّين والكنديّين مثلًا. في كلّ هذه البلدان, لا يتشارك الناس حتّى لغة واحدة، علمًا أنّ اللّغة غالبًا ما تشكّل القاسم المشترك الأساسي والأّوّل لشعبٍ ما في دولةٍ ما. ومع ذلك، حقّقت الفدراليّة في كلّ هذه الدول ذات التاريخ الدمويّ، العيش المشترك الذي يطمح إليه الأفراد والجماعات والمناطق. إذًا ليس صحيح أنّ الفدراليّة نقيض العيش المشترك.٬
إضافةً إلى ذلك، يستشهد الوزير قبّاني بالدستور وبإتّفاق الطائف : “لا تجزئة ولا توطين ولا تقسيم”. عظيم. ولكن لماذا الاستنسابيّة في الإشارة إلى النّصوص ؟ هل إحترام الدستور واتفّاق الطائف الذي يدعينا إليه الدكتور قبّاني هو عمليّة إنتقائيّة؟ فإتفّاق الطائف نصّ أيضًا على تطبيق اللامركزيّة الإداريّة، لكنّ رجلا القانون مسرّة وقبّاني يرفضان حتّى تطبيق أدنى درجة اللامركزيّة، أي تطبيق إتّفاق الطائف المذكور بالدستور. طبعًا، كلّ ذلك من دون إعطاء أي سبب مقنع، ممّا يعطينا الحقّ في التساؤل عن الأسباب الحقيقيّة وراء هكذا موقف. وفي المناسبة، ألم يشغل الدكتور قبّاني مناصب تنفيذيّة عدّة طوال مسيرته السياسيّة ؟ ما هي المبادرات التي قام بها الوزير قبّاني أو التي اقترحها لتطبيق الدستور ؟
ثالثًا، قابلت الصحافيّة ناصر الدين وزير العدل السابق الدكتور إبراهيم نجّار، الذي يميّز بين “الحكم” من جهة، و “النظام” من جهة أخرى. وهذا ما يقوم به ليلًا نهارًا، عن سوء النيّة أو عن جهل، شخصيّات معارضة للطبقة السياسيّة الحاكمة، عندما تنتقد في مقالاتها ومقابلاتها التلفزيونيّة، “المنظومة”، وليس النظام. أمّا الفدراليّون، فلديهم الشّجاعة والنضج الفكري لإنتقاد كليهما.٬
النقطة الأخيرة التي يجب التوقّف عندها هي شرط الإجماع لتغيير النظام الذي ذكره الدكتور نجّار، ممّا يتطلّب عقد مؤتمر تأسيسي جديد. يقول الدكتور نجّار إنّ “اللبنانيّين يعرفون أيضًا أنّ الفدراليّة مشروع يتطلّب موافقة المكوّنات اللبنانيّة عليه، لأنّها عقد اجتماعي وسياسي ومناطقي”. هذا صحيح في الشّكل، لكنّه قاتل بالمضمون. فهل انتظرت قوى سياسيّة كحزب الله أي إجماع أو أي وفاق لتباشر بتنفيذ فدراليّتها الخاصّة في مناطق نفوذها ؟
في الختام، لا بدّ من مقاربة الطرح الفدرالي بطريقة أكثر علميّة من خلال، مثلًا، أعطاء الكلمة لجميع الآراء. من موقعي المتواضع كطالب في العلوم السياسيّة، أدعو إلى النقاش ثمّ النقاش ثمّ النقاش. وإلّا يمكننا أن نقول : بئس هذا الزمان الذي يأتيك من يدّعي الفهم والإختصاص ليحاضرك بالقانون والدستور، معتبرًا أنّه الوحيد الذي يملك الحقيقة، وهو في الواقع بعيد كلّ البعد عن القانون والدستور.٬